سمو الشيخة المياسة بنت حمد آل ثاني ( صوت التراث القطري في زمن الثقافة العالمية)


في كل مرة يذكر فيها المشهد الثقافي في قطر، يتصدر اسم الشيخة المياسة بنت حمد بن خليفة آل ثاني بوصفه عنصراً محورياً في النهضة التي شهدتها البلاد خلال العقدين الأخيرين. حضورها في المجال الثقافي لم يكن مجرد دور إداري أو منصب قيادي، بل مشروع وطني متكامل يعيد للحكاية القطرية مكانها وسط عالم يتغير بسرعة. ومن يتأمل مسيرة الشيخة المياسة يدرك أن اهتمامها بالثقافة والتراث لا ينبع من واجب رسمي بقدر ما يتجذر في وعي عميق بأهمية الهوية، وبأن الأمم التي تفقد صلتها بذاكرتها تخسر قدرتها على صياغة مستقبلها.
فوق كل ما ترتبط به من منصب رسمي، تبدو الشيخة المياسة كقيادية ذات رؤية استراتيجية تعرف بالتحديد ما يعنيه الحفاظ على الذاكرة الوطنية، وكيف يمكن للأمة أن تستمد قوتها من تاريخها دون أن تنغلق على الماضي، وكيف يمكن للهُوية أن تكون أداة إنتاج، لا مجرد نتيجة.
وبينما تتسارع إيقاعات العولمة ويتراجع حضور الخصوصيات الثقافية في كثير من الدول، اختارت قطر عبر مشروعات يقودها فريق متكامل، تتصدره الشيخة المياسة، أن تجعل من الثقافة رهاناً وطنياً، وأن تجعل من التراث بوابة نحو المستقبل.
هذه الرؤية ليست شعاراً، بل سلسلة خطوات مؤسسية واضحة، أثمرت مشاريع ضخمة، وخلقت بنية ثقافية جديدة تحولت معها قطر إلى نموذج عربي رائد في كيفية إعادة صياغة علاقتها بتراثها.
في السياق المحلي، تُمثل رؤية الشيخة المياسة جزءاً من مشروع وطني أكبر بدأ منذ أوائل الألفية، يقوم على وضع الثقافة والتعليم والبحث العلمي في قلب التنمية. لكن دورها كان حاسماً في تحويل هذه الرؤية من مجرد توجه إلى واقع ملموس، عبر بناء مؤسسات ثقافية قادرة على حفظ التراث من جهة، والانفتاح على العالم من جهة أخرى.
ولأن أي مشروع ثقافي يبدأ بوعي صاحبه بالتراث، فإن نظرتها إلى التراث تتسم بعمق اجتماعي وحضاري.
فالتراث، كما يظهر من مقاربتها، ليس مجرد مبانٍ قديمة، ولا قطع متحفية يتم حفظها في خزائن. إنه السياق الذي يشكل وعي المجتمع، والذاكرة التي تراكمت عبر أجيال، واللغة غير المكتوبة التي يفهم بها الإنسان نفسه وتاريخه ومكانه في العالم.
ومن هنا جاء تأكيدها الدائم أن التراث لا يمكن أن يعيش إلا إذا أعيد تقديمه بطريقة تجعل الأجيال الجديدة ترى فيه جزءاً من حياتها، وليس مادة تاريخية بعيدة.
ومن هذا الفهم انطلقت مجموعة واسعة من المشاريع التي أعادت للتراث القطري مكانته الحقيقية. ولعل أبرزها مشروع متحف قطر الوطني، الذي أصبح اليوم بمثابة “سجل بصري” لتاريخ البلاد.
هذا المتحف، الذي يحمل توقيع المعماري الفرنسي جان نوفيل، لم يكن مجرد مبنى ضخم بملامح معمارية مبهرة، بل رؤية ثقافية ترى أن المتحف يجب أن يكون قصة. قصة تبدأ من تشكل البيئة الأولى، وتمتد إلى القبائل والبحر والتجارة والغوص، وتصل إلى تأسيس الدولة الحديثة.
وقد نجحت الشيخة المياسة في جعل المتحف منصة لتجربة شاملة، يعتمد فيها العرض على التفاعل، وعلى توظيف أحدث تقنيات الصوت والصورة، ليصبح المتحف مساحة تعليمية ومعرفية تستوعب الطفل الجامعي والباحث والسائح في آنٍ معاً.
ولا يمكن الحديث عن حماية التراث في قطر دون ذكر مشروع متاحف مشيرب، الذي مثل مرحلة جديدة في فهم الذاكرة الحضرية للدوحة. فقد تم ترميم أربعة بيوت تاريخية هي: بيت بن جاسم، بيت محمد بن جاسم، بيت الرادي، وبيت الشركة، وتحولت إلى متاحف تحكي تفاصيل الحياة اليومية واقتصاد اللؤلؤ، وتوثق بدايات التحول العمراني والاجتماعي في وسط المدينة.
هذا المشروع لا يقدم التراث بوصفه “ماضياً متحفياً”، بل بوصفه ذاكرة حية لعاصمة كانت تتشكل، ولمجتمع يعبر عن نفسه عبر البيوت، والأفنية القديمة، ونمط الحياة الذي كان سائداً قبل التحولات النفطية.
وتأتي الزبارة كعلامة فارقة أخرى في مشروعها الثقافي. فالمدينة التي كانت يوماً مركزاً اقتصادياً مهماً في الخليج، أصبحت مدرجة على قائمة التراث العالمي لليونسكو. وقد بذلت جهوداً كبيرة في ترميم الموقع وحمايته، وفي جعله جزءاً من المسارات التعليمية والسياحية، بحيث تتحول زيارة الزبارة إلى درس حي في التاريخ والعمارة والحياة الاجتماعية في قطر القديمة.
وإلى جانب التعليم البصري والمعماري، أدركت الشيخة المياسة أهمية الفنون البصرية المعاصرة في حماية الهوية من الذوبان، إذ ترى أن الفن يمكن أن يقوم بدور محوري في صياغة علاقة المجتمع بتراثه.
ومن هنا نشأت رغبتها في جعل الدوحة مركزاً عالمياً للحوار الفني، قادرة على استقطاب المعارض العالمية، وفي الوقت نفسه دعم الفنانين القطريين الشباب، الذين ينظر إليهم بوصفهم “حملة التراث الجديد”، أي التراث الذي يُعاد إنتاجه بلغة الفن الحديث.
وهكذا أصبح المشهد الفني في قطر فضاءً يمتد من التراث إلى المعاصرة، ومن السدو والخوص إلى الأعمال التركيبية والوسائط الرقمية.
ومع أن المشاريع الثقافية تحتاج إلى البنية التحتية، فإنها تحتاج أكثر إلى الإنسان. وفي هذا الجانب، كانت الشيخة المياسة واضحة في أن التعليم أساس كل نهضة ثقافية. لذلك أصبح التعليم الثقافي جزءاً رئيسياً من رؤيتها.
فبرامج متاحف قطر التعليمية تُدخل الأطفال إلى عالم التراث من بوابة التجربة، لا من بوابة الحفظ والتلقين. وتقدم للمدارس والجامعات برامج تفاعلية تربط بين المعرفة والممارسة، وتشجع على البحث الميداني، وتوثيق التراث الشفهي، وإعداد الأنشطة التي تجعل الطالب قريباً من تاريخ بلاده.
ومن زاوية أخرى، يمكن القول إن الشيخة المياسة قد رسخت مفهوم “الدبلوماسية الثقافية”، من خلال بناء شراكــــــات عالمية واسعة مع متاحف ومؤسسات دولية، وجلب معارض عالمية كبرى إلى الدوحة، وتقديم قطر بوصفها مركزاً ثقافياً مؤثراً.
هذا الحضور العالمي لم يجعل قطر مستهلكاً للثقافة، بل منتجاً لها. وقد انعكس ذلك في توسع اقتناء الأعمال الفنية العالمية، وفي تشجيع الفنانين القطريين على الانخراط في المشهد الدولي.
ولا ينفصل مشروعها الثقافي عن البعد الاجتماعي. فالمبادرات التي دعمتها في مجال الحرف التقليدية، والفنون الشعبية، والنهام، والشعر النبطي، تؤكد قناعة راسخة بأن الهوية تحتاج إلى عناصرها الحية، وإلى ممارساتها اليومية.
ولذلك جرى دعم الحرفيين، وإحياء بعض المهن التقليدية، وتوثيق الأداءات الشعبية، وإدماجها في البرامج التي تستهدف الجيل الجديد.
ومع كل هذه المشاريع، يبقى ما يميز تجربة الشيخة المياسة هو قدرتها على تحويل التراث من مفهوم تاريخي إلى استراتيجية وطنية. فهي لم تتعامل مع التراث بوصفه إرثاً يخص الماضي وحده، بل بوصفه مورداً يمكن أن يُسهم في صياغة اقتصاد ثقافي، وتعزيز السياحة الثقافية، وتنمية الوعي الوطني.
وتكشف هذه الرؤية عن قدرة على قراءة المستقبل، وفهم أن المجتمعات التي تحافظ على ذاكرتها قادرة على التفاعل مع العالم بثقة، وأن الهوية ليست حاجزاً، بل إطاراً يمنح الانفتاح معنى.
ومع مرور السنوات، أصبحت المشاريع الثقافية التي ترتبط باسم الشيخة المياسة علامات يتم الرجوع إليها عند قراءة تحولات الثقافة في قطر. وقد بات واضحاً أن حضورها في المشهد الثقافي ليس حضوراً بروتوكولياً، بل حضور قيادة تعرف بالضبط كيف يُبنى مشروع ثقافي متكامل، وكيف تُدار مؤسسة بحجم متاحف قطر عبر رؤية استراتيجية دقيقة.
وبذلك يمكن القول إن الشيخة المياسة بنت حمد آل ثاني ليست جزءاً من المشهد الثقافي في قطر؛ بل هي إحدى صانعاته الأبرز.
فهي قيادية استطاعت أن تجعل من التراث عنصراً من عناصر القوة الوطنية، وأن تربط بين الماضي والحداثة عبر لغة معاصرة، وأن تقدم للعالم نموذجاً لبلد صغير في حجمه، كبير في رؤيته.
إنها واحدة من الأصوات التي تقول عبر الفعل لا عبر القول إن الهوية الثقافية ليست ترفاً، وإن التراث ليس ذاكرة انتهت، بل مستقبل يُعاد تشكيله كل يوم.
ولا يمكن إغفال الجانب التعليمي في مشروع الشيخة المياسة الثقافي. فهي تؤمن بأن الهوية لا تصنع في المتاحف وحدها، بل تتشكل أيضاً في المدارس والجامعات والمراكز المجتمعية. ولهذا أصبحت البرامج التعليمية جزءاً أساسياً من رؤية متاحف قطر، تقدم للطلاب والناشئة فرصاً للتعرف على تاريخ بلدهم بطريقة تفاعلية تجمع بين الفهم البصري والتجربة العملية. وتأتي هذه الجهود في وقت تحتاج فيه الأجيال الجديدة إلى لغة جديدة تربطهم بتراثهم بطريقة عصرية ومقنعة.
ومع أن المشهد الثقافي القطري تطور بشكل غير مسبوق، فإن قراءة تجربة الشيخة المياسة تكشف أن هذا التطور لم يكن نتيجة استيراد نماذج خارجية، بل نتيجة رؤية تعيد تقديم التراث بطريقة مبتكرة وتمنحه مساحة ليتفاعل فيها مع الحداثة دون صدام. فالتراث في منظورها لا يعيش في الماضي، بل يمتد في تفاصيل الحياة اليومية، ويتحول إلى جزء من الهوية البصرية للدولة، ومن روح مؤسساتها، ومن الطريقة التي ترى بها نفسها أمام العالم.
بهذه الرؤية المتوازنة، استطاعت الشيخة المياسة أن تصنع حضوراً ثقافياً عالمياً دون أن تتخلى عن الجذور القطرية. وقدمت للعالم نموذجاً لدولة صغيرة المساحة لكنها كبيرة برؤيتها الثقافية، ومتمسكة بتراثها دون أن تنغلق عليه، ومنفتحة على العالم دون أن تذوب فيه. إنها شخصية تؤمن بأن الثقافة ليست رفاهية، بل عنصر أساس في بناء الأمم، وأن حفظ التراث هو الخطوة الأولى نحو مستقبل أكثر وعياً وصلابة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *