
حين تشرق الشمس على الدوحة، تتلألأ مياه الخليج في لوحة تذكّر القطريين بماضيهم البحري المجيد، وتنعكس على ناطحات السحاب التي ترمز لحاضرهم المزدهر.
بين البحر والسماء، نسجت قطر خيوط حكايتها الفريدة: حكاية أمة صغيرة المساحة، كبيرة الطموح، حافظت على هويتها الثقافية رغم رياح العولمة وتبدّل العصور.
في الزمن القديم، كان البحر شريان الحياة، وكان الغوص بحثًا عن اللؤلؤ أكثر من مجرد مهنة؛ كان مدرسة لتربية الرجال على الصبر والشجاعة والاعتماد على النفس. في تلك الرحلات الطويلة، كانت تتكوّن ملامح المجتمع القطري: روابط الأخوة بين الغواصين، واحترام القيادة، والتكافل بين الأسر التي تنتظر عودة السفن. كان الميناء الصغير يضجّ بالحياة مع عودة “المحامل“، وتتناقل النساء الأخبار والأغاني البحرية، فيغدو التراث جزءًا من وجدان الناس قبل أن يُدوَّن في الكتب أو المتاحف. من هنا انطلقت أول بذور الهوية القطرية: البساطة، والإخلاص، والكرم، والاعتزاز بالأرض والبحر.
ومع اكتشاف النفط في منتصف القرن العشرين، بدأت ملامح جديدة تظهر في المجتمع القطري. انتقلت البلاد من حياة البساطة إلى عالم الحداثة، من بيوت الطين والخيام إلى الأبراج الحديثة والطرق الواسعة. إلا أن التحدي الحقيقي لم يكن في البناء المادي، بل في الحفاظ على البناء المعنوي: الثقافة والعادات والقيم. كانت تلك مرحلة دقيقة، فبين الطفرة الاقتصادية والانفتاح على العالم، سعت القيادة القطرية إلى أن تظل الهوية الثقافية البوصلة التي توجه مسار التنمية. فتمّ دعم التعليم بوصفه ركيزة أساسية لبناء جيل يعرف تاريخه وينفتح على المستقبل. وظهرت مبادرات وطنية تهدف إلى إحياء التراث الشعبي، من الحرف التقليدية إلى الشعر النبطي والفنون الشعبية.
ولم تكن المتاحف في قطر مجرد مخازن للقطع الأثرية، بل مؤسسات ثقافية تسرد قصة وطن ويأتي متحف قطر الوطني كمثال على ذلك، بتصميمه الذي يحاكي زهرة الصحراء، ليروي رحلة البلاد من مرحلة الغوص على اللؤلؤ إلى النهضة الحديثة، أما متحف الفن الإسلامي فقد قدّم للعالم صورة عن العمق الحضاري للعالم الإسلامي من خلال مقتنياته النادرة، مؤكّدا أن التراث لا ينتمي إلى الماضي فقط، بل يشكّل وعي الحاضر؛ ومن خلال هذه المتاحف، استطاعت قطر أن توصل رسالتها: التطور لا يعني النسيان، بل الوعي بالماضي لاستشراف المستقبل.
الهوية القطرية ليست شعاراً يُرفع في المناسبات، بل ممارسة يومية تنبض في حياة الناس؛ فالقهوة العربية التي تُقدم في مجالس الدوحة، ورائحة البخور في البيوت، واحتفالات اليوم الوطني التي تتزين فيها الشوارع بالأعلام والزي القطري، كلها طقوس صغيرة تؤكد أن الأصالة ما زالت تنبض في المجتمع. حتى في العمارة الحديثة، استطاعت قطر أن تدمج بين الجمال التراثي والابتكار. نرى ذلك في تصاميم الأبراج التي تستلهم أشكال “البراجيل” القديمة، أو في مباني كتارا وسوق واقف، حيث تنبض الجدران بعبق الماضي وتعيش الحداثة في تناغم مع الحجارة القديمة.
كما ان التعليم القطري اليوم لا يقتصر على تلقين المعرفة، بل يسعى إلى بناء شخصية متوازنة تجمع بين الاعتزاز بالهوية والانفتاح على الآخر. تُدرَّس في المدارس قصص الغوص والبادية، وتُنظَّم الأنشطة التي تُعرّف الأطفال بالتراث الشعبي والحرف القديمة. أما الإعلام القطري، فكان له دور كبير في حماية الصورة الثقافية الوطنية فالقنوات المحلية، وعلى رأسها تلفزيون قطر والريان، تبث برامج توثّق العادات والتقاليد وتعرض الشعر النبطي والحرف التراثية، لتظل الذاكرة الجماعية حية في وجدان الجيل الجديد.
ورغم الانفتاح الكبير الذي تشهده قطر على المستوى الاقتصادي والرياضي والفني، فإنها لم تترك العولمة تذيب خصوصيتها الثقافية بل استطاعت أن تجعل من تراثها وسيلة للتواصل الحضاري مع العالم. في الحي الثقافي كتارا، تتلاقى الفنون والموسيقى والمسرح من مختلف الدول، في فضاء يعكس شعار قطر الدائم: الانفتاح دون الذوبان. وفي تنظيم بطولة كأس العالم 2022، قدّمت قطر للعالم نموذجًا فريدًا في الجمع بين الحداثة والتراث؛ فالملاعب استلهمت تصاميمها من الخيام والسفن العربية، والمشجعون تعرّفوا على الضيافة القطرية في كل زاوية من البلاد.
ولم يكن الحفاظ على الهوية ممكنًا دون دور المرأة القطرية التي ظلّت حارسة القيم في البيت والمجتمع. فهي التي ورّثت الأبناء اللغة والعادات، وشاركت اليوم في العمل الثقافي والأكاديمي والفني، لتؤكد أن الأصالة لا تتعارض مع الطموح. من خياطة الثياب التقليدية إلى قيادة المشاريع الثقافية، تبقى المرأة القطرية رمزًا للثبات في زمن التغيير.
قطر اليوم ليست كما كانت قبل خمسين عاماً، لكنها أيضًا ليست غريبة عن ماضيها فمن شواطئ البحر التي انطلقت منها قوارب الغوص إلى أفق السماء الذي تحلق فيه طموحاتها، ظلت قطر تسير بخطى واثقة، تمسك بيد الماضي وتمدّ يدها للمستقبل.
لقد أدركت أن الهوية ليست جداراً يمنع الرياح، بل جذورًا تمتد في الأرض مهما تغيّرت الفصول وفي كل صباح جديد، حين ينعكس ضوء الشمس على مياه الخليج، تروي الموجات الحكاية نفسها:
قطر… وطن يعرف من أين أتى، ويعرف إلى أين يريد أن يصل.