في كل مرة نتحدث فيها عن التراث، نميل من حيث لا نشعر إلى تخيله كشيء ثابت، محفوظ في صناديق المتاحف، أو كذكرى جميلة نستعيدها في المناسبات الوطنية. لكن الحقيقة أن التراث، لكي يظل حياً، لا يكفي أن نحفظه بل يجب أن نعيشه. فالمجتمعات التي تكتفي بتوثيق تراثها فقط، تفقد تدريجياً الرابط الحقيقي الذي يجعل هذا التراث جزءاً من الحياة اليومية، لا مجرد إرث تاريخي يذكر من باب المجاملة.
التراث القطري تحديداً يقف اليوم على منعطف مهم؛ فالدولة تشهد نهضة عمرانية وثقافية واقتصادية هائلة، وفي الوقت نفسه تحرص على حماية هويتها العميقة. لكن يبقى السؤال الأكبر: كيف يمكن لمجتمع يتحرك بهذه السرعة أن يحافظ على جذوره دون أن تتحول صورة الجذور إلى مجرد شعار؟
المعضلة ليست في قلة المبادرات التراثية—فالفعاليات، والمهرجانات، والمتاحف، والمراكز الثقافية موجودة وبقوة—لكن التحدي الحقيقي هو أن يعيش الناس هذا التراث بشكل طبيعي، لا بشكل احتفالي فقط. فالقيمة الحقيقية للتراث ليست في عرضه، بل في حضوره في تفاصيل الحياة اليومية: في حديث المجالس، في الطعام الذي يجتمع حوله الجيران، في العلاقات الأسرية التي لا تزال تحتفظ بنكهة الأصالة، وفي الحرف القديمة التي لم تفقد بريقها رغم بريق التكنولوجيا.
خذ على سبيل المثال فن السدو أو صناعة السفن الخشبية. هذه ليست مجرد منتجات تباع للسياح، بل هي ذاكرة مجتمع كامل. جزء من هويته البصرية والوجدانية. لكن متى كانت آخر مرة رأينا فيها شاباً قطرياً، من تلقاء نفسه، يتعلم هذه الحرف لا من باب الهواية المؤقتة، بل كامتداد لروح أجداده؟ هذه هي الفجوة التي يجب أن نملأها.
التراث ليس بحاجة إلى جمهور يشاهده، بل إلى مجتمع يمارسه. والدول التي أدركت هذه الحقيقة—من اليابان إلى المغرب—لم تكتف بحماية الحرف، بل دمجتها في الحياة اليومية. صنعت منها جزءاً من الاقتصاد، والتعليم، والعمارة، وحتى الموضة. جعلت التراث يعيش، لا يعرض.
في قطر، هناك فرصة ذهبية لخلق هذا التكامل. فالشباب اليوم أكثر قدرة على الإبداع، وأكثر اتصالاً بالعالم، وأكثر وعياً بقيمة الهوية. ما يحتاجون إليه ليس فقط معلومات عن التراث بل مساحات ليتنفس داخله. ليجربوه، ويعيدوا تشكيله، ويضيفوا إليه لمستهم الخاصة، دون أن يخشوا “الخروج عن المألوف”. لأن التراث، لكي يستمر، يجب أن يكون قابلاً للتطور، لا نسخة محفوظة في برواز.
الأمر لا يتعلق بالماضي فقط، بل بالمستقبل. المجتمع الذي يعرف جذوره، يعرف طريقه. والهوية التي تمارس في الحياة اليومية، لا تهتز أمام العولمة ولا أمام التحديث.
وفي النهاية…..التراث الذي يعاش أقوى ألف مرة من التراث الذي يعرض. والتاريخ الذي يتحرك تحت جلد الناس، لا في دفاترهم، هو التاريخ الذي يبقى.
ومتى ما أصبح التراث جزءاً من يوم الناس ليس حدثاً موسمياً عندها فقط نضمن أن تبقى الهوية القطرية حية، نابضة، قادرة على أن ترافق مستقبلاً لا يقل إشراقاً عن ماضيها.