هل يكفي حفظ التراث أم أننا بحاجة إلى ان نعيشه؟

……البراحة
ذاكرة المجتمع القطري

في خيال الأجيال الجديدة، تبدو “البراحة” مجرد كلمة تراثية مرتبطة بالماضي. مساحة ترابية يجتمع فيها الأطفال للعب، ويتبادل فيها الجيران أحاديث المساء. لكن الحقيقة أن البراحة كانت أكثر من ذلك بكثير؛ كانت مؤسسة اجتماعية غير رسمية، مدرسة حياة تشكلت فيها شخصيات، وترسخت قيم، وازدهرت علاقات جعلت المجتمع القطري مترابطاً على نحو لا يمكن أن تصنعه التكنولوجيا مهما بلغت قوتها.
البراحة لم تكن مجرد مكان، بل كانت إيقاعاً يومياً. كانت مساحة تشبه الحي كله في تسامحه، وانفتاحه، ودفئه. في البراحة، يكبر الطفل وهو يتعلم دون أن يشعر: يتعلم المشاركة حين يتقاسم الكرة مع أصدقائه، يتعلم القيادة حين يختارونه «كابتن» في إحدى اللعب، ويتعلم المسؤولية حين يطلب منه الأكبر سناً مشاهدة الصغار. وفي لحظات بسيطة لا تنسى، كان يتعلم أيضاً معنى “النخوة”، و“الشهامة”، و“الستر” — الكلمات التي تشكل حجر الأساس للهوية القطرية.
واليوم، ونحن نعيش في مجتمع تتسارع فيه الحياة وتتقلص فيه المساحات التي تتيح للناس اللقاء الطبيعي، يبدو السؤال ملحاً: ماذا تبقى من روح البراحة؟
لم تعد الساحات كما كانت، ولم يعد اللقاء تلقائياً كما كان. كل شيء اليوم يحتاج إلى موعد وترتيب مسبق حتى لقاء الجيران. ومع ذلك، من الخطأ أن نظن أن دور البراحة انتهى، بل ربما نحن بحاجة إلى إعادة اختراعها بصيغة تناسب العصر الجديد.
هناك قدر كبير من الذكاء الاجتماعي في فكرة البراحة. فالمجتمع الذي يملك مساحة مفتوحة يشترك فيها أفراده يومياً، هو مجتمع يملك فرصة أكبر للتواصل الحقيقي، لا الافتراضي. فرصة لنمو الأطفال في بيئة مختلطة تعلمهم التفاعل الإنساني بعيداً عن العزلة التي تفرضها الأجهزة الذكية. فرصة لبناء علاقات أسرية وجيرانية متينة، لا علاقات عابرة تولد في الهواتف وتنتهي فيها.
“البراحة” ليست تراثاً مكانياً فقط، بل تراثاً سلوكياً. إنها واحدة من القلائل التي تجمع بين معنى المكان ومعنى التربية. هذا ما يجعل الحديث عنها اليوم ليس حنيناً إلى الماضي، بل دعوة إلى المستقبل. دعوة لإعادة هندسة المدن والأحياء بحيث تظل العلاقات الإنسانية جزءاً أصيلاً منها، لا تفصيلاً ثانوياً يذوب أمام الإسمنت والزجاج.
تخيل لو أعيد بناء فكرة البراحة في الأحياء الحديثة: ساحات آمنة يلعب فيها الأطفال بلا خوف، مجالس صغيرة تجمع الجيران، فعاليات تراثية تعيد إحياء الألعاب القديمة، ومساحات مفتوحة تتيح للعائلات التجمع كما كان يحدث منذ عقود. تخيل كيف يمكن لهذه المساحات أن تعالج الكثير من مشكلات هذا العصر: العزلة الاجتماعية، ضعف الروابط بين الجيران، غياب التفاعل الطبيعي بين الأجيال.
عندما ننظر إلى البراحة باعتبارها “ماضٍ جميلاً” فقط، فإننا نحرم أنفسنا من إرث عظيم في بناء مجتمع صحي ومتوازن. لكننا حين ننظر إليها باعتبارها “نموذجاً اجتماعياً” يمكن تحديثه وإعادة تطبيقه، نكون قد فهمنا جوهر التراث: ليس ما نحتفظ به في الصور، بل ما نعيد تدويره في الحياة.
وفي النهاية…..
البراحة ليست تربة وطيناً، بل ذاكرة جمعية. ليست مساحة فارغة؛ بل مساحة ممتلئة بالإنسان. وإذا أردنا أن نضمن أن يبقى المجتمع القطري متماسكاً رغم تسارع العصر، فعلينا أن نعيد إحياء روح البراحة—بشكل يناسب اليوم، ويحفظ جوهر الأمس، ويصنع غد لا يشبه إلا قطر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *