حين تتكلم الذاكرة بصوت الجدة “الحكايات الشعبية التي تحفظ روح قطر”

في ليالي الشتاء الطويلة، حين كانت رياح الشمال تهب على البيوت الطينية، تجتمع العائلة حول الجدة، تلك السيدة التي تحمل في عينيها ذاكرة أجيال؛ تضيء “الفنر” الصغير، وتبدأ الحكاية بصوتٍ هادئ كالموج، لكنه قادر على أسر القلوب. يتسابق الصغار إلى الجلوس قربها، ويصمت الجميع حين تقول كلمتها السحرية “كان يا ما كان” عندها يبدأ الزمن في التراجع، ويصبح الحاضر امتداداً للماضي، ويولد الخيال من رحم الحقيقة.

الحكايات الشعبية في قطر لم تكن يوماً مجرد وسيلة للتسلية، بل كانت مدرسة غير رسمية للحياة؛ وفي غياب الكتب والمدارس في الماضي، كانت الجدات يعلّمن القيم والأخلاق عبر القصص فكل حكاية تحمل في طياتها درساً يُزرع في الوجدان: الشجاعة في مواجهة الخوف، الصبر أمام المصاعب، والعدل في التعامل مع الآخرين وكانت القصة وسيلة لتربية جيلٍ يعرف الخير والشرّ دون أن يُلقَّن، بل يتعلّم من خلال العبرة والسرد والرمز.

تنوّعت هذه القصص بتنوّع البيئة القطرية نفسها. فمن البحر جاءت حكايات الغواصين ومخلوقات الأعماق مثل “بو درياه”، الذي يحذر من التهور في البحر ومن الطمع ومن الصحراء جاءت قصص “الغياضة” التي كانت تستخدم لتخويف الأطفال حتى لا يبتعدوا عن بيوتهم؛ ومن الحياة اليومية نشأت حكايات تمجّد الكرم والوفاء والشجاعة، مثل قصص الفرسان والبدو الذين يحمون الجار ويكرمون الضيف.

كانت الجدة راوية ومؤرخة ومربية في آنٍ واحد. بصوتها العذب كانت تُعيد سرد القصص التي سمعتها من أمها وجدتها، فيتوارثها الأحفاد كما يتوارثون المجوهرات القديمة وكانت طريقة الحكي لا تقل أهمية عن الحكاية نفسها؛ فالإيماءات، ونبرات الصوت، والمواقف الممثّلة، كانت تجعل من المجلس مسرحًا شعبيًا صغيرًا يعيش فيه الجميع لحظاتٍ من الخيال الممزوج بالحنين.

ومع تغيّر الزمن ودخول التعليم والإعلام، خفت صوت الجدة قليلاً، لكن القصص لم تختفِ؛ لقد انتقلت من المجالس إلى الكتب، ومن الحكاية الشفوية إلى المسلسلات والمسرح والبرامج الثقافية حيث بدأت مؤسسات مثل متحف قطر الوطني وكتارا بتوثيق التراث الشفهي وحفظ القصص الشعبية ضمن المشاريع الوطنية للتراث، إدراكاً بأن هذه الحكايات ليست مجرد خيال قديم، بل ذاكرة ثقافية تعكس رؤية المجتمع لنفسه.

الحكاية الشعبية القطرية لا يمكن فصلها عن روح المكان فهي ابنة البحر والرمل والمجالس، ومرايا لقيم المجتمع الذي عاش في البساطة لكنه حمل حكمة عظيمة فالقصة التي ترويها الجدة عن الغوص أو عن فارسٍ ضائع في الصحراء، ليست فقط حكاية من الماضي، بل رمز للبحث الدائم عن الذات، وعن المعنى في وجه الحياة المتغيّرة.

ورغم أن أجيال اليوم قد ابتعدت عن المجالس القديمة، إلا أن روح الحكاية ما زالت حاضرة فحين تروي الأم لأطفالها قصة قبل النوم، أو حين تعرض المدارس القطرية مشاهد من التراث الشعبي، يعود صوت الجدة من جديد، يذكّرهم بأن الأمة التي تحفظ قصصها تحفظ نفسها.

ففي كل بيت قطري، هناك حكاية معلقة في الذاكرة، فيها لؤلؤ البحر ودفء الصحراء وابتسامة الجدة. تلك الحكايات ليست فقط رواياتٍ عن الماضي، بل نسيج من الذاكرة الجماعية التي صاغت شخصية قطر وجعلتها تعرف من أين أتت، وإلى أين تمضي. فالقصة التي تبدأ بـ “كان يا ما كان”، لا تنتهي أبداً، لأنها ببساطة… قصة وطن.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *