
في قطر، لا تُقاس قيمة المجالس بعدد مقاعدها أو فخامتها، بل بما تحمله من روحٍ تجمع القلوب وتربط الأجيال. فالمجلس القطري لم يكن يومًا مجرد مكانٍ للجلوس وتبادل الحديث، بل كان وما زال مدرسةً للحياة، ومؤسسة اجتماعية غير مكتوبة، تُنقل فيها القيم والعادات والأخلاق جيلاً بعد جيل فهو ذاكرة المكان ودفتر التاريخ، فيه يجتمع الأجداد والشباب، وتُروى فيه الحكايات التي تصنع هوية الوطن.
منذ القدم شكّل المجلس مركز الحياة الاجتماعية في البيوت القطرية وكان مفتوحاً للجيران والضيوف والمسافرين، يقدم فيه القهوة العربية والتمر، وتدار فيه النقاشات حول شؤون الناس وأخبار البحر والتجارة والقبائل، كما كان المجلس رمز الكرم والاحترام، ومكاناً تُحل فيه الخلافات وتُدار فيه المشورة.
الجلسة على الأرض، صوت “الدلة” حين تصب القهوة، رائحة البخور، كلها طقوس تحمل دلالات عميقة على التواصل الإنساني الذي يميز المجتمع القطري.
لم تكن المجالس حكراً على الرجال الكبار فقط، بل كانت مدرسة لتربية الصغار على الأدب والمعرفة؛ فالشاب الذي يجلس بصمتٍ إلى جوار جده أو والده كان يتعلم دون أن يُدرّس، من طريق الكلام، وطريقة الجلوس، واحترام الدور في الحديث، وكانت ولا زالت المجالس تصقل الشخصية، تُعلّم الصبر، وتُكسب الشاب معرفة دقيقة بتاريخ بلاده وشيوخها ورجالها وهناك تُروى قصص الغوص والبادية، وحكايات الشجاعة والكرم، وتُردّد الأشعار النبطية التي توارثها الناس جيلاً بعد جيل.
ومع تطور قطر ودخولها عصر الحداثة، لم يختفِ المجلس، بل تغيّر شكله وظل محتفظاً بروحه واليوم أصبح المجلس جزء من العمارة الحديثة، مصمماً بأناقة تجمع بين الراحة والتقليد، مزود بالتكنولوجيا لكن محافظ على رائحة التراث وفي كل بيت قطري تقريباً، لا يزال المجلس هو الفضاء الذي يجتمع فيه الكبار والشباب، حيث يناقشون قضايا اليوم بلغةٍ يغلب عليها الاحترام والمودة.
الدولة بدورها أولت المجالس أهمية خاصة، فأنشأت مجالس الأحياء التي أصبحت منصات للحوار المجتمعي، وأماكن للقاء بين المواطنين وصناع القرار. كما أن المؤسسات الثقافية، مثل كتارا ومتحف قطر الوطني، نظمت فعاليات تحاكي طقوس المجالس القديمة، من الشعر النبطي إلى سرد القصص الشعبية، تأكيداً على أن المجلس ليس ماضياً جميلاً فحسب، بل جزء حي من الحاضر الثقافي.
اللافت أن الشباب القطري اليوم، رغم انفتاحه على العالم وارتباطه بالتكنولوجيا، ما زال يجد في المجلس مساحة يجد فيها ذاته وهناك يتعلمون لغة الكبار، ويتبادلون الآراء في السياسة والثقافة، ويستعيدون أجواء التواصل الحقيقي بعيداً عن الشاشات وأصبحت المجالس جسر بين جيلٍ يعيش إيقاع السرعة وجيلٍ خبر الصبر والتأمل.
ولعل استمرار تقليد المجالس في المجتمع القطري يعكس عمق التوازن بين الحداثة والأصالة؛ ففي عالمٍ يتجه نحو الفردية، يظل المجلس مساحة جماعية تعيد للناس معنى اللقاء وفيه تصان الذاكرة الجماعية وتستعاد القيم التي قامت عليها حياة الأجداد: الكرم، والاحترام، وحب الوطن.
المجلس القطري في جوهره ليس مجرد مكان، بل حالة اجتماعية وثقافية. هو خيط الود الذي يربط الماضي بالحاضر، وصوت الحكمة الذي يتردّد بين الأجيال وفي كل فنجان قهوة يقدم فيه، وكل كلمة تقال في المجلس، تستمر قطر في كتابة قصتها الجميلة: قصة وطنٍ يعرف كيف يُحدث التغيير دون أن يفرّط في دفء اللقاء.