الاستاذ الدكتور علي عبد الهادي الشاوي -أستاذ علم الاجتماع السياسي والنظرية الاجتماعيةبجامعة قطر

تراث قطر بين الوعي والمعرفة
في لحظة تاريخية تتسارع فيها التحولات الثقافية وتشتد فيها تأثيرات العولمة، تبدو الهوية القطرية وكأنها تستعيد حضورها بقوة عبر مؤسسات الدولة وفي مقدمتها جامعة قطر. هذا الحضور لا يأتي بوصفه ردفعل، بل بوصفه مشروعاً واعياً يستند إلى تراث طويل، ويستشرف مستقبلاً قادراً على الجمع بين الأصالة ومتطلبات العصر. وسط هذا المشهد، يقدّم الدكتور علي عبدالهادي الشاوي، أستاذ علم الاجتماع السياسي والنظرية الاجتماعية، رؤية فكرية عميقة حول كيفية فهم الهوية، ودور الجامعة، ومسؤولية الشباب في حمل الرسالة الثقافية.
يؤكد الدكتور الشاوي أن مفهوم الهوية ليس مصطلحاً نظرياً مبهماً، بل هو الإطار الجامع الذي تتكوّن من خلاله شخصية الأمة. فالهوية، كما يصفها، هي مجموع الصفات والخصائص التي تميز مجتمعاً عن غيره، وتشكل جذور وجوده الحضاري. وهي بناء متكامل يضم الدين واللغة والثقافة والتاريخ، وتتجسد فيه ذاكرة الشعوب وتجاربها. ويرى أن اللغة العربية والدين الإسلامي يشكلان أهم ركائز الهوية العربية والإسلامية، يليهما التراث الثقافي والعادات الاجتماعية التي تمنح المجتمع القطري سماته الخاصة.
ويشير إلى أن الهوية لا تكتمل إلا عندما تتجسد في ثلاثة عناصر متكاملة: الوطن بوصفه المكان والتاريخ، والدولة باعتبارها الإطار القانوني والسياسي الذي يوحد الجميع، والأمة التي ترتبط بمرجعية ثقافية وروحية مشتركة. هذه العناصر هي التي تمنح الهوية قوتها وقدرتها على الاستمرار أمام التغيرات.
من هذا المنطلق، يرى الدكتور الشاوي أن جامعة قطر تمتلك موقعاً محورياً في حماية الهوية الوطنية وتعزيز حضورها بين الأجيال الجديدة. فهي ليست مؤسسة تعليمية فحسب، بل فضاء معرفي وثقافي ينعكس فيه وعي المجتمع ورؤيته لتاريخه ومستقبله. ويمكن للجامعة، كما يؤكد، أن تسهم في بناء هذا الوعي عبر تطوير المناهج التي تحتفي بالتراث والتاريخ القطري، وتشجع على دراسة المجتمع المحلي بعمق، باعتبار ذلك أحد الأسس الضرورية لترسيخ الانتماء الوطني. كما يرى أن البحث العلمي قادر على لعب دور مهم في توثيق التراث وتقديمه بطرق علمية حديثة تجعل منه مادة حية قابلة للحوار والفهم والتجدد.
ويتوقف الدكتور الشاوي مطولاً عند أهمية دمج التراث في التجربة الجامعية. فهو يؤمن بأن الهوية لا تتكون داخل الكتب فقط، بل في التجارب المباشرة التي يعيشها الطالب من خلال الأنشطة الثقافية، واللقاءات، والفعاليات التي تعيد تقديم الموروث القطري بروح معاصرة. وترى رؤيته أن تعزيز الهوية يتطلب تفاعلاً دائماً بين الجامعة والمؤسسات الثقافية في الدولة، مثل المتاحف والمراكز التراثية، بما يمنح الطلبــــــة فرصة للاطلاع على التاريخ القطري عبر محتوى واقعي وملموس.
وفي سياق العلاقة بين التراث والمستقبل، يرفض الدكتور الشاوي فكرة أن التراث مجرد ذكريات تخص الماضي، أو أنه عبء يعوق التقدم. بل يذهب إلى أن التراث هو مصدر قوة، وقاعدة روحية وفكرية تمنح المجتمع القدرة على الانطلاق نحو المستقبل بثبات. ويرى أن التوازن بين الاثنين يتحقق عندما نُعلّم التراث بوصفه جزءًا فاعلًا في الهوية لا يتناقض مع الحداثة، بل يساهم في صياغة شخصيات أكثر وعيًا وثقة. فالأمة التي تفقد اتصالها بماضيها تفقد بوصلتها في الحاضر.
أما الشباب القطري، فيضع الدكتور الشاوي على عاتقهم مسؤولية كبيرة في حفظ التراث ونقله، فهم الجيل الذي يعيش في عالم سريع التغيير، ويحتاج إلى أن يوازن بين انفتاحه على العالم وتمسكه بجذوره. ويؤكد أن وعي الشباب بالتراث لا ينبغي أن يقتصر على المعرفة النظرية، بل يجب أن يتجسد في المشاركة الفعلية: في توثيق القصص الشفهية، ودعم الحرفيين، والمساهمة في الفعاليات الوطنية، وفي إعادة تقديم التراث عبر منصات رقمية وفنون حديثة تجعل منه مادة جذابة للأجيال الجديدة.
وتأخذ التكنولوجيا في حديثه موقعًا مهمًا بوصفها وسيلة فعالة لحماية التراث لا لتهديده. فهو يرى أنها تمنح المجتمع فرصة لتوثيق الموروث بصور عالية الجودة، وتحويل المتاحف إلى منصات تفاعلية، واستخدام الواقع الافتراضي لخلق تجارب تعليمية تنقل التراث من شكله التقليدي إلى عالم رقمي حيّ. كما أن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت قناة قوية يمكن للشباب عبرها إنتاج محتوى يعيد تقديم التراث القطري بصورة حديثة ومؤثرة.
وفي سياق خاص، يولي الدكتور الشاوي أهمية كبيرة للغة العربية باعتبارها العمود الفقري للهوية. فهي الوعاء الذي يحمل الذاكرة والقيم، والوسيلة التي يرتبط بها المجتمع بثقافته وتراثه. ورغم انتشار لغات أخرى في العمل والتعليم، تبقى العربية الرابط الذي يوحد المجتمع القطري، ويمنحه القدرة على الحفاظ على شخصيته الثقافية وسط التعدد اللغوي.
وفي ختام رؤيته، يوجه الدكتور علي عبدالهادي الشاوي رسالة واضحة للشباب: التمسك بالتراث ليس تراجعًا إلى الماضي، بل هو خطوة واعية نحو مستقبل متوازن. والاعتزاز بالهوية لا يتعارض مع الانفتاح، بل يمنح القدرة على أن يكون الفرد جزءًا من العالم دون أن يفقد جذوره. ويؤكد لهم أن مسؤوليتهم اليوم مضاعفة، لأنهم الجسر الذي يصل الماضي بالمستقبل، وهم القادرون على إعادة تقديم التراث بروح جديدة، تجعل منه عنصر قوة في نهضة قطر ورؤية مجتمعها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *